جريدة عمان
25 ذو القعدة 1445هـ - 2 يونيو 2024م
أنظمة العمل
المرنة.. ما لها وما عليها
بحلول وانتهاء جائحة كورونا
(كوفيد 19) توسع الحديث عن ضرورات الاتجاه إلى تبني أنظمة العمل المرنة، وقد يعود
ذلك إلى عدة عوامل؛ منها اضطرار قطاع واسع من مؤسسات العمل حول العالم (حكومية
وخاصة) إلى تبني نظم العمل عن بعد؛ وهو ما أفرز لدى بعض المؤسسات والدول تجارب
إيجابية من ناحية العلاقة بين هذه الأنماط من العمل وبين مستويات الإنتاجية من
ناحية، وتحسن جودة حياة الموظفين من ناحية أخرى. العامل الآخر هو صعود مفاهيم (جودة
الحياة) في ذاتها، واحتلالها موقعًا مهمًا سواء في الخطط الوطنية للدول، أو في
معايير بيئات العمل للمؤسسات الرائدة، أو في مؤشرات الرضا عن بيئات العمل بالنسبة
للموظفين، أما ثالث هذه العوامل فقد يكون مرتبطًا بالتطور المتسارع في تقنيات
الإنتاج وإنجاز الأعمال، والذي يتيح للحكومات والمؤسسات على حد سواء فرصة الدمج بين
جهد وإنتاجية العامل البشري (في حدود زمانية يمكن التحكم بها) مع الاعتماد على
التقانة وسط شعارات الانتقال والتحول الرقمي، والتي أصبحت هي الأخرى على رأس أجندة
الحكومات والمؤسسات.
نقصد هنا بأنظمة العمل المرنة مجمل التسهيلات التي تتيح تغيير شكل/ أشكال من النظم
التقليدية للعمل، المرتبطة بالحضور في ساعات محددة بحكم النظام، أو التواجد الجسدي
لتقديم الخدمات وأداء الأعمال في مكان محدد، ومن هذه التسهيلات: العمل عن بعد،
تقليص عدد ساعات العمل، تقليص أيام العمل، تخفيف كلفة التنقل في محيط العمل من خلال
استخدام الاجتماعات الافتراضية وما شابهها من آليات، بالإضافة إلى أنظمة العمل
متناوبة الفترات مثل تقسيم فترات خدمة المراجعين طوال اليوم بدلًا من الاكتفاء
بدوام رسمي محدد. في الواقع وللحكم على هذه التسهيلات عمومًا لابد من الانتباه إلى
محدد مهم وهو (سياق التطبيق)؛ فحين الحديث عن التطبيق على المؤسسات الخاصة (الشركات
مثلًا) فإن السياق يختلف عن التطبيق على الحكومات؛ ذلك أن المؤسسات الخاصة تعتبر
بيئة تجريبية يمكن التحكم في كافة عناصرها، وطبيعة نظم العمل فيها، والتقسيمات،
ونوعية اتصالها بالمجتمع، وأساليب الإدارة المتبعة تتيح قياس التأثير والتجربة
المباشرة على كافة العمليات والأداء بشكل واضح في سياق زمني محدود. أضف إلى ذلك فإن
عامل تأثير الثقافة المؤسسية يمكن التحكم فيه وفق النظم والإجراءات المتبعة داخل
هذه المؤسسات. أما في حالة التطبيق على الحكومات فهناك مجموعة متعددة من العوامل
التي يجب أخذها في الاعتبار منها: نوعية المؤسسة في اتصالها وعلاقتها بالمستفيدين -
حجم الحكومة - دورات وفترات تقديم الخدمة - تماثل التقسيمات الإدارية في الهياكل
الحكومية المختلفة - تمركز الحكومة من لامركزيتها - درجة الانتقال الرقمي وإمكانية
تقديم خدمات متكاملة عن بعد - درجة اعتمادية المؤسسات على بعضها - درجة اعتمادية
المعاملات الحكومية على عدد منافذ تقديم الخدمة - طبيعة الهياكل الوظيفية داخل كل
مؤسسة - وضوح أدوار العاملين بشكل دقيق (وظائف فنية - وظائف إشرافية) - والعامل
الأهم في تقديرنا هو مدى وجود مؤشرات واضحة ودقيقة لقياس الأداء و (الإنتاجية) داخل
المؤسسة من ناحية، وداخل الحكومة ككل من ناحية أخرى. ونعتقد أن هذا مؤشر يتوجب
الانتباه إليه وتحديثه بشكل مستمر؛ ذلك أن الكثير من سياسات العمل يفترض أن تقوم
عليه أو تأخذه في الاعتبار في وضع الإجراءات والنظم.
يبدو من الجيد الاستفادة مما وصلت إليه التجارب الدولية المماثلة، ولكن مع عدم
إهمال طبيعة السياق الاقتصادي من ناحية حجم الاقتصاد وطبيعته ومستوى تدخل الدول في
العمليات الاقتصادية وسواها من العوامل، إضافة إلى السياقين الثقافي والاجتماعي، قد
تعزز أنظمة العمل المرنة الاستقرار والاندماج الاجتماعي، وقد تقوي الروابط
الاجتماعية والأسرية، وقد تمنح المربين فرصًا أفضل للاقتراب من الأبناء تعليميًا
وسلوكيًا وترفيهيًا ومعرفيًا، وقد تحسن من فرص اهتمام الموظفين بالصحة والسلامة
الشخصية، وبالتالي تنعكس على جودة الحياة، وتتيح وقتًا أفضل للتعلم المستمر
والتطوير الذاتي، وتنشط الطلب على أنشطة اقتصادية معينة مثل أنشطة الترفيه الشخصي
والعائلي، وأنشطة السياحة الداخلية، والطلب على الخدمات التقنية ومنتجاتها، والطلب
المرتبط بإعادة تصميم المنازل كبيئات داعمة للعمل المرن، وقد تكون (نظريًا) مساحة
العمل المرن تدفع للمزيد من الإنتاج بالنسبة للأفراد نظير التخلص من قيود الوقت
والمكان والرسمية، وقد يعزز انتساب الأفراد لأنظمة عمل مرنة الطلب على السوق
المحلية وإعادة توجيه القوى الشرائية نحو منتجات وخدمات مختلفة. ولكن تبقى كل هذه
المسائل (افتراضات) في ظل عدم وجود بيانات أساسية (Baseline) يمكن الانطلاق منه
والقياس لاحقًا عليه، بما في ذلك مؤشرات الإنتاجية التي نبهنا إليها، وما طبيعة
القيود الحالية المفروضة على تحسين أنماط وجودة الحياة وهل أنظمة العمل تشكل جزء
منها؟ وما طبيعة الوضع الراهن للقدرة على التوفيق بين العمل والحياة الشخصية لدى
الموظفين الحكوميين؟ وهل ستسهم فعلًا سياسات العمل المرنة في التغيير في هذه
المعادلة.. وقائمة طويلة من الأسئلة التي يمكن الانطلاق منها إلى محاولة قياس
التغير المحتمل. تبدو المسائل المرتبطة بالانتقال للرقمي للحكومة، ومسائل جودة
شبكات الاتصالات في عموم البلاد، والثقافة الرقمية للمجتمع، وثقافة نقل المهام
Handover ضمن الثقافة المؤسسية، والثقة ومستويات التمكين بين الرتب الوظيفية
والتقسيمات الإدارية عوامل أخرى لا يمكن إهمالها ضمن تخطيط الانتقال إلى سياسات
العمل المرنة.
كل الاعتبارات سابقة الذكر لا تعني أن الانتقال بهذا القدر من التعقيد، ولا تقلص أو
تحد من أهميته في الوضع الراهن خاصة مع ضغوط الحاجة لتحسين مستويات جودة الحياة،
والعوارض المتصلة بالظروف المناخية وقيودها، وحالات تطرف الطقس، والبحث عن مستويات
رضا وولاء وظيفي عالية داخل الحكومات. لكن ما نريد التأكيد عليه هو أنه بقدر ما
يكون الانتقال مخططًا ومدروسًا ليس فقط كـ (اعتبار مالي واقتصادي)، وإنما متشعب
الاتجاهات، كلما كانت النتائج مخططة وذات عائد على مستوى تحسين الحياة الاقتصادية
والاجتماعية للمجتمع. أيضًا لا بد أن يشمل تخطيط الانتقال اختيار البديل المناسب في
السياسات، هل من الأجدر أن نقلص الساعات؟ أم نقلص الأيام؟ أم نوسع نطاق العمل عن
بعد؟ أو ما هي الترتيبات التي يمكن أن يكون جدواها أكثر فاعلية لتحقيق أهداف
السياسة العامة. وقد تكون التسهيلات المختلطة بين عدة خيارات بديلًا مناسبًا في حد
ذاته، بشرط اختيار سياقات ومؤسسات العمل التي يمكن أن تتبناها وتطبق عليها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
مرسوم سلطاني رقم (53) لسنة 2023
بإصـدار قانــون العمــل