جريدة الوطن الإثنين 29
يوليو 2019 م - ٢٦ ذي القعدة ١٤٤٠ هـ
المسئولية الجنائية للفصامي
في ظهيرة يوم السبت،
الموافق 29 ديسمبر 2017م، طالعتنا وسائلُ التواصل الاجتماعي، بخبرٍ مُفجعٍ عن مصرع
أحد أفراد شرطة عُمَان السُّلطانية، على يدِ أحد المواطنين، أثناء القيام بالواجب
الوطني المنوط به، في حفظ الأمن والنظام العام.
كما انتشر، في وقتٍ لاحق، مقطعًا مرئيًا يوضِّح المطاردة التي حدثت بين فرد الشرطة
(المجني عليه) والمتهم القاتل.
في ضوء هذا الانتشار الإعلامي غير الرسمي للخبر، أكدت شرطة عمان السلطانية في
موقعها الرسمي، عبر الـ(تويتر)، صحة الخبر، مشيرةً إلى أن الوسيلة التي استخدمت هي
سلاح أبيض من نوع سكين، وليس سلاحًا ناريًا، كما تدول بين العامة، وطمأنت الجمهور
بأنها تمكَّنت فورًا من القبض على الجاني، في مسرح الجريمة، وأن القضيةَ أضحت قيد
الإجراءات، تمهيدًا للمُلاحقة القضائية.
كما أكدت، في الوقت عينه، ما ثبت لديها بأن الجاني مُختلٌ عقليًا، وأهابت الجميع
بعدم تداول الصور الفوتوغرافية أو مقاطع الفيديو المتعلقة الجريمة مُراعاة لمشاعر
أولياء الدَّم (http://www.wa-gulf.com/935958).
وتشير خلفيَّات الفاجعة الماثلة، إلى أن المتهم (س. ع) البالغ من العمر (22) سنة،
ظهرت عليه علامات الاضطراب النفسي في عامه العاشر، حيث راجع به أهله مُستشفى جامعة
السُّلطان قابوس، بعد أن ظهرت منه بعض السُّلوكيّات العنيفة، وعدم الالتزام بأنظمة
المدرسة، والتي أدَّت لاحقًا إلى تركه للدِّراسة وهو في الصف السَّابع.
وفي سنواتٍ لاحقة، ظهرت عليه أعراض الفصام العقلي، وتحديدًا في سنة 2011م، حيث كان
عمره يُقدَّر بحوالي خمسة عشرَ ربيعًا، ودأب عندئذٍ على التحدُّث مع نفسِه، وظهرت
عليه مجموعةً من الهلاوسِ السَّمعية والبصرية، وبعض الضَّلالات الاضطهاديَّة، التي
تتمثَّل في الشعورِ العميق بالاستهداف من قبل جماعاتٍ إجراميةٍ مُسلَّحة، وقد نُقل
على إثرها إلى مُستشفى المسرَّة لتلقي العلاج، بعد أن تفاقمت الحالة المرضية، وأخذت
الهلاوس توهمه بأن الجماعة المسلحة تلاحقه في بيت ذويه للنيل منه؛ وهو ما اضطرّه
إلى إضرام النار في عموم البيت للفتك بتلك الجماعة وإلى لجوئه هو إلى سطحِ المنزل،
لينأى بنفسِه من النيران وإلى القفز أخيرًا من السطح عندما حاصرته النيران من جميع
الجهات فأصيب بإصابات بالغة.
شخَّصت مُستشفى المسرَّة حالته، في عام 2011م، عقب حادثة إضرام النيران، بأنه
يُعاني من مرض الفصام العقلي، المعروف بالسكيزوفرينيا، أو (Schizophrenia)،
وتحديدًا، بالفصام الاضطهادي، فظلَّ في المستشفى لفترةٍ تحت العنايةِ والمراقبةِ
والعلاج، فتحسَّنت حالته بشكلٍ ملحوظ، وهو الأمر الذي أدى إلى تسريحه من المستشفى
إلا أنه لم يلتزم بتناولِ العِلاج بإنتظام، كما لم يلتزم أيضًا بمراجعة المستشفى في
الفترات المحدَّدة له، فانتكست حالته من جديد.
وفي يوم الحادثة الماثلة، انتابت المتهم حالةٌ شديدةٌ من الهلاوس السمعية، والأفكار
الاضطهادية ـ بسبب الإهمال في تعاطي العلاج ـ وكان والده خارج المنزل، لقضاء بعض
مصالح الأسرة، فخرج المتهم من المنزل، قاصدًا الوصول إلى مسجد الحارة، لأداءِ صلاة
الظهر، وما أن خرج من البيت، حتى ولمح مجموعة من الأشخاص يحملون أسلحة نارية ـ
حسبما وردَ في إفادته ـ فعاد من فوره إلى المنزل، واستلَّ سكينًا من المطبخ، لحماية
نفسه من شرور تلك الجماعة الإجرامية، أثناء وجوده في الخارج.
وفي الطريقِ، اعترضه أحدٌ من أفراد الجالية الباكستانية، فطعنه بسكينٍ في ظهرِه، ثم
ركضَ إلى أن وصل مركز سيتي سنتر للتسوق، وهناك شاهد الشرطي (المجني عليه) الذي حاول
تعقُّبه للقبض عليه، ولا يذكر ما الذي حدث تحديدًا إلا أنه يذكر أنه طعن الشرطي في
محاولةٍ منه للدِّفاع عن نفسِه من الجماعة المسلَّحة، ومن بينهم الشرطي المغدور
الذي كان يلاحقه وفي يده سلاحًا ناريًا.
* سبب الوفاة:
يؤكّد تقرير الطب الشرعي أن نتيجة تشريح جُثمان المجني عليه، تؤكِّد أن سبب الوفاة
يعود إلى الآتي: (الإصابة الطعنية النافذة إلى التجويف الصدري أحدثت تمزقًا في
الشريان الأورطي الهابط، والرئة اليمنى، وما صاحب ذلك من نزيفٍ غزير).
* رأي اللجنة الطبية:
أكَّدت اللجنة الطبيَّة، بعد تقييم الحالة، أن المتهم يُعاني من مرضٍ نفسيٍّ عُضال،
وهو مرض الفصام العقلي، وأنه كان تحت تأثير الضلالات الاضطهادية والهلاوس السَّمعية،
وكان غير مدرك لفداحة وعواقب ما ارتكبه من أفعال ممَّا يجعله غير مسؤول عن أفعاله،
فيما يختص بالقضية الماثلة.
* الموقف القانوني:
نص المشرع في المادة (50) من قانون الجزاء، رقم (7 /2018) على الآتي:(لا يُسأل
جزائيًا من كان، وقت ارتكاب الجريمة، فاقدُ الإدراك أو الإرادة، لجنونٍ أو عاهةٍ في
العقل، أو غيبوبةٍ ناشئةٍ عن عقاقير أو مواد مُخدرة أو مُسكّرة، أيًا كان نوعها،
أعطيت قسرًا عنه، أو تناولها بغير علمٍ بها، أو لأيِّ سببٍ آخر، يُقرر العلم أنه
يفقد الإدراك أو الإرادة).
* تصرف الادعاء العام:
بعد انتهاء التحقيقات، وتحديد مسئوليته الجزائية للمتهم، حسب الإبانة المتقدمة قرر
الادِّعاء العام إحالة المتهم إلى محكمة الجنايات بتهمتي القتل العمد، بالمخالفة
للمادة (301/هـ) من قانون الجزاء، والشروع في القتل عمدًا، بالمخالفة للمادة (301،
بدلالة المادة 30/2) من القانون ذاته.
* الحكم:
بتاريخ 25 فبراير 2019م، قضت محكمة الجنايات بالسيب بالآتي:(قرّرت المحكمة وقف
السير في إجراءات المحاكمة، حتى يعود المتهم إلى رشده، ويستطيع الدفاع عن نفسه، على
أن يحجز بمستشفى المسرَّة والمحافظة عليه، وعلى الادعاء العام موافاة المحكمة
بتقريرٍ عن حالته العقلية والنفسية، كل ثلاثة أشهر).
* التعليق على الحكم:
المشرّع عدَّ فاقد الأهلية، الذي يتصرّف بدون وعيٍ وإدراك، وفقما جاء في المادة
(50) من قانون الجزاء، غير خاضع للمساءلةِ الجزائية، لتوافُّر مانع من موانع
المسئولية الجزائية، مع ضرورة التنويه بأن هذا ليس هو حُكم القانون فحسب وإنما هو
حُكم الشرع أيضًا. فالمعروف شرعًا أن القصاص لا يجب على من اختلّ عقله، سواء لجنونٍ
أو لأيّ سببٍ من أسباب الاختلال، بلا خلاف.
* ما يجب معرفته عن المرضى الفصاميين؟
ينبغي أن ندركَ بدايةً أن الفصام هو مرضٌ عقليٌّ، يُصنّفه عُلماء النَّفس بأنه أحد
أكثر الأمراض الذهنية شيوعًا وانتشارًا، وتؤدي الاصابة به إلى عدم انتظامِ
الشخصيَّة، وتدهورها على نحوٍ تدريجيّ.
والفصام العقلي هو: حالةٌ مُتطوِّرةٌ من المرض العقليّ أو الإختلال الحاد فيه، هذه
الحالة ـ إن جاز التعبير ـ تُشَوِّشُ وتخترق الحياة اليومية للمُصاب، خاصةً في
الجوانب المتعلقة منها بالمزاج، والقُدرة على التفكير الهادئ.
جرت العادة التحدث عن الفِصام العقلي على أنه مرضٌ واحد؛ إلا أن الحقيقة التي
يجهلها الكثير تشير إلى أن الفصام العقلي إنما هو أمراض أربعة، وهي على النحو
التالي: الفصام البسيط (Simple schizophrenia)، والفصام الطفولي (Hebephrenic)،
والفصام التخشُّبي أو الجمودي (Catatonic)، وأخيرًا الفصام الاضطهادي (Paranoid)،
وأخطر أنواع الفصام هو الفصام الاضطهادي، الذي يُعاني منه المتهم في القضيةِ
الماثلة، ثم الفصام التخشبي.
وتشيرُ مجموعةٌ من الدِّراسات إلى أنه غير صحيح أن الفصاميين، أو المرضى النفسانيين
بشكلٍ عام، يميلون دائمًا إلى اقترافِ الجريمة؛ فمُنذ سنواتٍ خَلَت، أخذ الباحثون
يدرسون العلاقةَ بين المرضِ النفسيِّ والجريمة ومع ذلك لم يتوصَّلوا إلى نتيجةٍ
قاطعةٍ ومُؤكَّدة بعد (Prins, 1995)، وعلى العكس من ذلك، هناك من يُؤكّد أن هناك
دراسات تشير إلى أن هؤلاء المرضى يكونون أكثر عُرضةً إلى أن يكونوا ضحايا الإجرام،
عن كونهم مجرمين (Travis, 1996).
وما هو مُؤكَّدٌ يشيرُ إلى أن ارتباط جرائم العنف بالفصاميين يتعزَّز بشكلٍ حاد مع
سوء استخدام المخدرات أو المشروبات الكحوليات، وهي تلك الحالة التي تُعرف بحالة
التشخيص المزدوج، أو (Dual diagnoses)، أيِّ حالة فِصام مقرونة مع الإدمان على
الكحول أو العقاقير، ومع ذلك فإن حتى هذه النتيجة، لا يمكن تعميمها، إذ أنها رهنُ
اعتباراتٍ كثيرة، منها نوعُ الفصام، كما أوضحنا فيما سلف، ونوع المؤثِّر العقليّ
المستخدَّم، وكذا جُملة من العوامِل الاجتماعية الأخرى، كالفقر، وفقدان مورد للرزق،
وما إذا كان الجاني فاقد المأوى من عدمه (Sellars, 1993).
وعطفًا على ما أشار إليه (Prins) من أن أكثر الفصاميين مَيلاً إلى الإجرام، هم
المصابون بالفصام الاضطهادي، والفصام التخشُّبي أو الجُمودي، فلقد أردف ذلك بالقول
أنهم يميلون عادة إلى الإيقاع بالشخصيَّات العامة المشهورة، لحاجتهم إلى جذب
الانتباه والاشتهار. هذه النتيجة تجد دعمًا وتأييدًا من القضاء الإنجليزي، في جمٍ
غفيرٍ من أحكامه، لعل أبرزها، تلك القضية التي اشتهرت باسم قضية ماكنوتن
(McNaughton). تتلخص هذه القضية في شروع المدعو ماكنوتن، في عام 1843م، في قتل أحد
وزراء الملكة فكتوريا، السير روبرت بيل، بإطلاق النار عليه، ظنًّا منه أنه رئيس
الوزراء، وقد ثبت من خلال الفحص أنه كان يُعاني من أوهامٍ اضطهاديةٍ حادة، وأن تلك
الأوهام كانت دومًا تخبره بأن رئيس الوزراء يضطهده، وظهرت بعد المحاكمة ما عُرفَ
بقواعد ماكنوتن (McNaughtonRules)، التي أخذت المحاكم تبني عليها أحكامها في تحديدِ
المسئولية الجزائية للجناة.
وفي السِّياق ذاته، نجد قضية الشروع في اختطاف الأميرة آن، في مطلع الثمانينيَّات
من القرن الميلادي المنصرم، والتي ثبت أن الجاني كان يُعاني من فصام اضطهادي حاد،
وما فعل فعلته تلك، إلَّا طمعًا في الشُّهرة.
أيضًا، أشار (Spry, 1984)، إلى أن هناك دراسات تؤكِّد بأن من الجرائم المرتبطة
بالفصاميين هي جريمة قتل الأمهات (Matricide)، والمتورّطين فيها عادةً ما يكونون من
الأبناء الذكور، وهذه النتيجة يؤكِّدها أيضًا (Hollin, 1989)، نقلاً عن (Green,
1981)، الذي أوضح بأن نتيجة الدراسة التي أجراها على (58) ثمان وخمسين من الذكور
المتورطين في قتل أمهاتهم، أشارت إلى أن نسبة (74%) من هذه العينة كانت مصابة
بالفصام العقلي، وأن المحرك إلى الجريمة كان غريبًا وعجيبًا وشاذًا، في آنٍ واحد.
فالمريض يتوهم أنه وقع ضحية تسمُّم، وأن أمّه تحوَّلت إلى حيوانٍ أو وحشٍ سام، وأنه
إذا أقدم على قتلها، فهو بذلك يقضي على مصدر الخطر.
وخلصت هذه الدراسات إلى أن ترك هؤلاء المرضى يعيشون منفردين مع أمهاتهم، ينبغي أن
يكون محل نظر.
* المستفاد من القضية:
المريضُ الفصاميّ ينبغي متابعته متابعةً دقيقة، من حيث عدم تركه وحيدًا دونما
مُراقبة، والوقوف على تناول العلاج الطبي الموصوف له، من ناحية وضرورة مُراجعته
للمستشفى، وفق المواقيت المحدَّدة له؛ ولا تجزي البتَّة مراجعة أحد أفراد أسرته
لاستلام الأدوية فحسب؛ وذلك كلّه، تجنبًا لانتكاسة حالته، وحدوث ما لا يُحمد عُقباه.
مُساعد المُدعي العام
ناصر بن عبدالله الريامي
مرسوم
سلطاني رقم 7 / 2018 بإصدار قانون الجزاء
مرسوم
سلطاني رقم 47/2000 بتحديد اختصاصات وزارة العدل واعتماد هيكلها التنظيمي
مرسوم
سلطاني رقم 9/ 2012 بشأن المجلس الأعلى للقضاء
السلطنة تشارك في الدورة الــ
22 لمكافحة الجريمة والعدالة الجنائية بفيينا