جريدة الوطن-
الأثنين 28 أكتوبر 2019م - 29 صفر 1441هـ
تعرّف على جرائم الاتجار بالبشر (الجزء السادس)
(الوطن) بالتعاون مع الأدعاء العام
كنا قد أوضحنا، في الجزء الأول من هذا الموضوع، أن ظاهرةُ الاتجار بالبشر ما هي إلا
اسمٌ جديدٌ لظاهرةٍ قديمة، ألا وهي (الرِّق)، وإن تعدَّدت أشكالها.
ووقفنا أيضًا على التعريف الاصطلاحي الدَّولي الذي أتى به البروتوكول، ثم التعريف
الذي أتى به المشرّع الوطني، في الجزء الثاني، وذلك قبل أن نُعرّجَ على بعض
التطبيقات العملية، منها الافتراضية، ومنها المستخلصة من أدبيات مكتب الأمم المتحدة
المعني بالمخدرات والجريمة، وذلك كله تقريبًا للصورة إلى أذهان جمهور العامة.
في هذا الجزء، سنورد اجتهادًا فقهيًا لتعريف الاتجار بالبشر، ونلحقه ببعض
التطبيقاتٍ العملية، مستخلصةً من التجربة العُمانية للغاية نفسها المذكورة أعلاه،
ألا وهي تعزيز مفهوم الجرائم محل العرض والبيان.
تقول ـ في هذا الصَّدد ـ الدكتورة مريم المالكية (2012): إن التعريف الوارد في
البروتوكول، ليس تعريفًا لمصطلح (الاتجار بالبشر)، بل هو مُجرَّد توضيح لأركان
الجريمة، ذلك لأن الاتفاقيات والبروتوكولات ليس من شأنها إيراد تعريفات وإنما هي
مهمة الباحثين والمتخصِّصين، ولذلك ترى المالكية أن الاتجار بالبشر هو:(الاستغلال
غير المشروع أو غير العادل للإنسان). فالاستغلال بمفهومه السلبي هو جوهر عملية
الاتجار بالبشر ومحتواها، والاستغلال يقصد به جني ثمار الاتجار، فهو الغاية من
أعمال الاتجار.
ويستنتج من هذا التعريف، أن قوام جريمة الاتجار بالبشر وأساسها هو استغلال الظروف
الصعبة التي تعاني منها الفئات المستضعفة من البشر، ونتفق مع تعريف الاستغلال، الذي
أورده الباحث محمد السيّد عرفة (2005)، ضمن كتاب المالكية (2012)، بأن الاستغلال
هو:(أيِّ ممارسة يتم اتخاذها من قبل شخص ضد آخر، تكون من شأنها التأثير سلبًا على
حق من حقوقه المشروعة).
ويستنتج من التعريف الفقهي أعلاه، أنه من الصعب حصر حالات الاستغلال في نصٍ قانونيّ
وأن المجال، والحال كذلك، يسع لكل صور الاستغلال، كما يستنتج أيضًا بأن مصطلح
الاتجار بالبشر يشير إلى الحالة التي يوضع فيها الإنسان جبرًا عنه، سواءً باستخدام
القوة، أو التهديد، أو الاحتيال، أو الإكراه، أو نتيجة حالة ضعف، أو الضغط، التي لا
تتيح للإنسان حرية الاختيار بالإرادة الحرة.
فكل استغلال للإنسان يخالف القانون هو اتجار بالبشر، كما يستخلص أيضًا بأن لفظ
(الاستغلال غير المشروع أو غير العادل)، المستخدم في التعريف الفقهي المتقدّم، يعني
استبعاد الاستغلال المشروع، مثل تشغيل العامل بعقد عمل متكافئ في الحقوق والواجبات
(المالكية، 2012، ص 51).
ـ بعض الأمثلة من التجربة العُمانية:
القضية الـ(1): تتحصل هذه القضية في قيام مجموعةٌ من المتهمين ـ الوافدين من دولة
عربية شقيقة، العاملين في السَّلطنة بعقود عمل مشروعة ـ قيامهم بإحضار فتيات إلى
السَّلطنة بتأشيرات التحاق بالزوج، خلافًا للحقيقة، وذلك بعد أن قدَّموا عقود زواج
مزوَّرة، دعمًا لزعمهم بقيام الزوجية، فتحقَّق لهم بذلك الحصول على سِمَة إقامة
مشروعة للفتيات، وذلك لقصد تسفيرهن إلى دولة خليجية شقيقة، بتأشيرة المقيمين في دول
المجلس،للعمل في الدعارة فتحقق لهم ذلك، ذهابًا وإيابًا، لغيرِ مرة، حيث كلما انقضت
مدة الشهر، وهي المدة التي تمنحها التأشيرة الخليجية للإقامة المؤقتة، أعادتها
العصابة إلى السَّلطنة، تمهيدًا لعودتهن بتأشيرة مُجدَّدة إلى الدولة الخليجية
ذاتها، وللغرض عينه، وهو العمل في الدعارة.
وبعد أن وقَرَفي يقين المحكمة أن المتهمين استغلوا ضعف الفتيات (المجني عليهن)، بأن
أوهموهن بأنهم سيوفروا لهن فرصًا للعمل الشريف، وإذا بهن يتفاجأن، بعد وصولهن
البلد، بأن العمل الموعودين به، ما هو إلا الدعارة، وأنه لم يكن في مقدورهن العودة
إلى أوطانهن، كون المتهمون كانوا قد حصلوا منهن على أوراق موقعات على بياض، تثبت
مديونيّتهن لمصلحة المتهمين.
وعليه، قرّرت المحكمة إدانة المتهمين بجناية الاتجار بالبشر، وقضت بسجنهم لمدة سبع
سنوات، والغرامة عشرة آلاف ريال وطردهم من البلاد، بعد إنقضاء المحكومية.
ـ القضية الـ(2): سافرت المتهمة إلى دولةٍ أفريقية، وهناك اتفقت مع خمس فتيات
لإحضارهن إلى السلطنة، لأجل العمل في مركزٍ للتجميل.
اتفقت معهن على تفصيلات العمل، والامتيازات التي سيحصلن عليها، واتخذت المتهمة
الترتيبات اللازمة لإحضارهن، بعد أن رجعت إلى السلطنة.
تفاجأت الفتيات، عقب وصولهنّ، أن المتهمة لم يكن لديها محل للتجميل، وأن العمل
الوحيد الذي قدمته لهن، هو العمل في الدعارة، ومحاولاتهن للرفض والامتناع، باءت
بالفشل، حيث ألزمتهن المتهمة بتسديد ما عليهن من نفقات الإحضار، وغيرها من
المصاريف، للسَّماح لهن بالعودة.
يُذكر إن المتهمة كانت قد فرضت على كل واحدة من الضحايا، قبل التعيين في موطنهن،
مبلغًا وقدره ألفا دولار، لأجل الحصول على فرصة العمل، وجميع الضحايا لم يكن في
مقدورهن دفع المبلغ مُقدّمًا، وإنما دفعن ما لا يتجاوز ربعه فقط، عن طريق
الإستدانة، والباقي من المقرر أن تستوفيه المتهمة من رواتبهن. وجدت الضحايا أنفسهن
في حالة استضعاف، ولم يكن أمامهنّ سوى الرضوخ للأمر الواقع.
قررت المحكمة إدانة المتهمة بجناية الاتجار بالبشر، وقضت بسجنها خمس سنوات نافذة،
وتغريمها خمسين ألف ريال للحق العام.
ـ القضية (3): أثناء تجوال المتهمان بسيارتهما في أحد الأسواق، اشتبها في أمر إحدى
الأجنبيات (من جنوب شرق آسيا)، فاستوقفاها، وأمراها بإبراز بطاقة المقيم الخاصة
بها، بعد أن زعما أنهما يعملان في جهةٍ أمنية. ولكون المرأة كانت تعمل خارج نطاق
كفيلها، لهروبها من منزله، وكانت بطاقة المقيم منتهية الصلاحية شرعت في الهرب،
فتمكن المتهمان من ضبطها فورًا، وأركباها معهما في السيارة، متظاهرين أنهما
سيوصلانها إلى أقرب مركزٍللشرطة.
توسلت إليهما ألا يسلماها، نظرًا لحاجتها للعمل وللمادة فأخذاها، بدلاً من ذلك، إلى
مكانٍ خاص، وهناك تعاقبا على ممارسة الجنس معها، ثم باعاها إلى شخصٍ ثالثٍ (آسيوي)
في إحدى المزارع، الذي بدوره شغلها في الدعارة؛حيث كان يتعاقب عليها في اليوم
الواحد قرابة الأحدَ عشر زبونًا، واستمرت كذلك لبضعة أيام، إلى أن تمكنت من تسلق
سور المزرعة وطلبت النجدة من أهل المزرعة المجاورة.
بعد الانتهاء من التحقيقات، قرَّر الادِّعاء العام إحالة المتهمين الأول والثاني
إلى محكمة الجنايات لاقترافهما جناية مُواقعة أنثى بدون رضاها، وانتحال صفة موظف
عام، والاتجار بالبشر، لبيعهما للضحية للمتهم الثالث، كما قدم الثالث بجناية
الاتجار بالبشر، بأن دفع الضحية للعمل في الدعارة، مستغلاً قلة حيلتها، كون إقامتها
غير مشروعة، ولعملها في البلاد بطريقةٍ غيرِ مشروعة.
قرَّرت المحكمة إدانة المتهمين بجناية الاتجار بالبشر، بالمخالفة للمادة (9/ج)، كون
الجريمة ارتكبت من أكثر من شخص، وقضت بسجن كل منهم لمدة سبع سنوات، والغرامة عشرة
آلاف ريال وبطرد المتهم الثالث من البلاد.
ـ القضية الـ(4): عاملة منزل تهرب من بيت كفيلها، بناءً على تحريضٍ من (س) من
الناس، بعد أن رسم في مخيلتها أن المواصفات الجمالية والأنثوية التي تملكها، كفيلة
بأن تدُرُّ عليها دخلاً، ليس في مقدورها حتى أن تحلم به، ما دامت هي مُصرّة على حبس
نفسها في الخدمة المنزلية، وأن من هم في جمالها، لديهن أماكن أخرى للعمل فيه،
والتمتّع بوفرةِ المادة.
سألته العاملة عن ذاك المكان، ونوع العمل، فقال لها: إن الأعمال كثيرة، أقلها العمل
كنادلة في فندق خمس نجوم، أو في محلات الأزياء النسائية.
بناء على هذا الإغواء، هربت من بيت كفيلها، إلى بيت المحرِّض، الذي رحب بها ترحيبًا
حارًّا، وبعد مضي يومين تقريبًا، وتحديدًا، بعد أن نشر كفيلها صورتها الشخصية في
الصحف اليومية، بكونها هاربة، وأنه أبلغ عنها الضبطية القضائية عرض عليها المحرض
العمل في البغاء، وبرفضها العرض، هدَّدها بتسليمها إلى السُّلطات، لوضعها المخالف
للقانون، اضطرت المرأة، والحال كذلك، إلى الرُّضوخ لإملاءات المتهم، الذي شغلها
لمصلحته في الدعارة، كما باعها، بعد ذلك، إلى شخصٍ آخر، الذي بدوره أيضًا أجبرها
على العمل في الدعارة.
بعد الانتهاء من التحقيقات، قرَّر الادِّعاء العام إحالة المتهمين إلى محكمة
الجنايات، لإقترافهما جناية الاتجار بالبشر، وقضت بسجن كلٍّ منهما لمدة خمسِ سنوات،
وتغريمهما مبلغًا وقدره خمسة آلاف ريال عماني لكلٍ منهما.
* المرجع:
ـ الدكتورة مريم المالكية (2012)، السياسة العامة لمكافحة الاتجار بالبشر في ضوء
الشريعة الإسلامية والسياسات الدولية.
ـ محمد السيد عرفة (2005)، تجريم الاتجار بالأطفال في القوانين والاتفاقيات
الدولية، بحث منشور ضمن كتاب (مكافحة الاتجار بالأشخاص والأعضاء البشرية)، جامعة
نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض.
النظام الأساسي وفقًا لآخر تعديل - مرسوم سلطاني رقم
(101/96) بإصدار النظام الأساسي للدولة
مرسوم سلطاني رقم 126/2008 بإصدار قانون مكافحة الإتجار بالبشر
مرسوم سلطاني رقم 12/ 2011 بإصدار قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات
قرار وزارة الصحة رقم 179 / 2018 بإصدار اللائحة التنظيمية لنقل وزراعة الأعضاء
والأنسجة البشرية