جريدة الوطن الإثنين 4
مايو 2020 م - ١٠ رمضان ١٤٤١ هـ
الوطن
بالتعاون مع الادعاء العام: الجهل بالقانون والمسئولية الجزائية
كثيرًا ما يتردّد، في
الأوساط الاجتماعيةِ المختلفة، دفعٌ مُؤدّاه (عدم العِلم بوجودِ نص قانونيّ، يمنع
إتيانِ فعلٍ مُحدَّد)، أو (يحظر الامتناع عن أداءِ عملٍ مُعيّن).دفعٌ كهذا، عادةً
ما نسمعه من الذين زلَّت أقدامهم بمخالفة الأوامر أو النواهي القانونية وذلك من باب
دفع المسئولية عن أنفسهم..
نسمعه أيضًا، من المقرّبين إلى هؤلاء الخارجين على القانون للغرضِ نفسه، وهو
تخليصهم من المسئولية القانونية.
هنا يثور تساؤل حول مدى مقبولية هكذا دفع.
بمعنى آخر، هل يُعذر الإنسان بجهله بالقانون، أم أن القانون سيبقى مُلزمًا على
الجميع بمجرد صدوره، عَلِموا به أم لم يعلَموا به.
وإذا انتهينا إلى الإلزام، بصرف النظر عن العلم؛ هل سينصرف هذا الإلزام إلى
القوانين كافة، أم إلى الجزائية منها فقط، دون سواها من القوانين غير الجزائية، وما
إذا كان الأمر سيطال الأجانب أيضًا، أم المواطنين فحسب.
هذا ما سأسعى جاهدةً إلى تسليطِ الضَّوء عليه في المقال الماثل.
* الأصل العام:
تشير القاعدة الأساسية في هذا المجال إلى أن الجهل بالقانون لا يحُول دون تطبيقِه
على من يجهله.
قد يبدو غريبًا هذا القول على العامة إلا أنه يرتكز على مُبرّراتٍ، سنعرض بعضًا
منها فيما سيلي من بيان.
ما يهمنا إيراده، في هذا السياق الإستهلالي، هو أن المُشرِّع لم يسكت عن هذا
المضمون؛ وإنما تناوله بالنص الصريح في المادة (5) من قانون الجزاء، رقم:(7/2018)،
وفق الصيغة الصريحة التالية:(لا يُعد الجهل بالقانون عُذراً).المضمون ذاته ورد في
كثيرٍ من التشريعات العربية والأجنبية؛ أمّا في الأنظمة التي لم يُنص على المبدأ في
تشريعاتها، اتجه الفقه والقضاء لديها إلى عَدّه من الأبجديات؛ وبالتالي إلى اعتماده.
فهي أيضًا ترى أنه:(ليس للجهل بالقانون أو الغلط فيه أيَّ تأثيرٍ على مسؤولية
الجاني).وهذا هو الحال الذي كانت عليه الممارسة العملية، لدينا في السَّلطنة، قبل
صدورِ قانون الجزاء السَّاري.
ففي ظل قانون الجزاء الملغي، رقم:(7/1974)، لم يكن المبدأ مُنظمًا تشريعيًا؛ ومع
ذلك، اتّجه القضاء إلى ما أشرنا إليه.
فالقانون يفترضُ عِلم كلّ من يخضع لسُلطانِه لما تصدره من أحكامٍ ومُقتضيات؛ وهذا
ما يُعبّر عنه بـ(قرينة افتراض العلم بالقانون)؛ شريطةً أن يكون العلم به مُمكنًا؛
ولو لم يتحقق العلم الحقيقي به.
فالعبرة هنا بإمكانية العلم.
* الاستثناء على المبدأ:
يبقى، في هذه الإستهلالية، أن نشير إلى أن هذه القاعدة لا تسري على إطلاقِها؛ وإنما
توجد فُسحة بسيطة للخروج من نطاق مُقتضياتها؛ فيجوز الاعتذار بالجهل بالقانون
استثناءً، كما في حالة قيام حالة من حالاتِ القوّة القاهرة، التي تحُولُ دون وصولِ
الجريدة الرَّسمية إلى بعض مناطق الدّولة، نتيجة لعزلها عزلاً تامًا عن باقي مناطق
الدولة.
مثال للقوة القاهرة (إعصار مصيرة):
وإذا كان البيان يتَّضح دائمًا بالمثال، كما جاء في الأثر العربيّ، فيمكن أن نستشهد
بحادثة إعصار مصيرة المدمّر، ذلك الإعصار المداري الذي ضرب شواطيء السَّلطنة
المطلّة على بحر العرب، في شهر يونيو من عام 1977م، وتأثرت جزيرة مصيرة، تأثرًا
بالغًا، كادت أن تغرق بالكامل، فانقطع عنها الاتصالات، السلكية واللاسلكية؛ وكذا
انقطعت وسائل الوصول الفعلي إليها، الجوية منها والبحرية.
فلو افترضنا أن قانونًا ما صدر إبّان تلك الفترة، واقترف أحد القاطنين في الجزيرة
فِعلاً مخالفًا لأوامر أو لنواهي هذا القانون، ودفع عن نفسه المسئولية بالقول: أنه
لم يكن عالمًا بمقتضيات القانون؛ فلاشك أن موجبات العدالة المنشودة تقضي بأن نقبل
منه هذا الدفع؛ كون الجزيرة كانت في حالة إنعزالٍ تام عن الإقليم الأم؛ ولم يكن من
سبيلٍ لوصول الجريدة الرسمية إليها؛ فلا مبرر، والحال كذلك، من افتراض العلم
بالقانون.
والحال عينه ينسحب على فرضية وقوع جزءٍ من إقليم البلد تحت الاحتلال الأجنبي؛ أو
اندلاع حرب أو ثورة في البلد، ترتب عليها عزل إقليم الدولة، وحيلولة ذلك دون
امكانية وصول الجريدة الرسمية إليها.
* مبرِّرات المبدأ:
يقول الدكتور أحمد براك: إنّ هذا المبدأ يعد نتيجة مباشرة لمبدأ الشرعية على أساس
أنه، إذا كان المُشرِّع يضمن للأفراد أن يكون نصُّ التجريم سابقًا على الفعل، وأنه
لن يتعرض أحدًا للعقاب، ما دام أن سلوكه لم يقع، لحظه ارتكابه، تحت طائلة القانون؛
فإنه، في موازاةِ ذلك، يكون من الواجبِ على الأفراد العِلم بالقانون؛ ويعني ذلك
بالتبعية، أن الجهل أو الغلط في أحكام القانون، ينطوي على إهمال المتهم؛ ولا يجوز
أن يؤثر ذلك على الركن المعنوي؛ إلّا إذا ثبت أنه كان من المستحيل عليه العلم
بالقانون، نتيجة قوة قاهرة.
ويرى الدكتور محمد حسين (1995) أن الحكمة من إيجاد هذه القاعدة، تكمن في رغبة
المُشرِّع، وكذا فقهاء القانون، في أن ينطبق القانون على جميع الأشـخاص المخـاطبين
بأحكامِـه؛ سواء وصل إليهم العلم الحقيقي بالقانون أم لا؛ فلا يُقبل من أحـد
الاعتـذار بالجهـل بالقـانون؛ وإلّا، لحلَّت الفوضى محل النظام؛ ولأدَّى، في الوقت
نفسه، إلى إهدارِ صفة الإلزام في القاعدة القانونية؛ لأن تطبيقها سيكون متوقفًا على
علم الأفراد بها من عدمه؛ ويؤدي بطبيعة الحال إلى البلبلة والتحايل على إثبات عدم
العلم بالقانون، تهربًا من أحكامه.
وفي تأكيدٍ لهذا السِّياق، يقول الدكتور محمود نجيب حسني (1982): إنّ سلطة الاتهام
غير مُلزمة بإثبات أن المتهم كان عالماً بالقانون، ولا بالصفة الإجرامية التي
يسبغها على الفعل المقترف؛ كما لا يقبل من المتهم أن يقيم الدليل على انتفاء العلم؛
ذلك لأن، القانون يفترض على الأفراد كافة، وطنيين كانوا أم أجانب، السَّعي نحو
الإحاطة بأحكامِه؛ والقول بغير ذلك ينطوي على إهدارٍ لمبدأ المساواة بين الأفراد،
بتطبيق القانون على البعض دون الآخر؛ ويتعارض وسيادة القانون واستقرار النظام في
المجتمع.
* مبدأٌ قاسٍ:
هناك اتجاه يرى أن قرينة (افتراض العِلم بالقانون)، ليست ظالمة وقاسية فحسب؛ وإنما
هي شائِخة، في الوقت عينه.
فهناك الكثير من المبرّرات العملية، وكذا القانونية تكشفُ عن قسوةِ التشَبُّث بمبدأ
عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون؛ ويتجلّى ذلك في الانتقادات التي ساقها لنا
الدكتور أحمد براك، في البيان التالي:
* الانتقادات على المبدأ:
يرى النُقّاد أن المبدأ يرتكز على أساسٍ نظريٍّ مَحض، يقوم على المجاز والافتراض؛
وهو ما يخالف مقتضيات العدالة، التي لا تقوم إلا على الجزم واليقين.
لاشك أنها القاعدة تجلبُ نفعًا للمجتمع؛ ومع ذلك، فلا ينبغي الأخذ بها على إطلاقها؛
لأن العدالة تأبى معاقبة من لا تتوافر لديه الإرادة الآثمة.
الإحاطة بالقوانين قد يصعب على رجال القضاء، فكيف بالعامة غير المتخصصة.
يزداد الأمر تعقيدًا، إذا كان البلد يعيش فترة نهضة تشريعية؛ كما حدث في السَّلطنة
على أعقاب صدور النظام الأساسيّ للدولة في عام 1996م.
تسود العالم اليوم تشريعات تتصف بطبيعتها الفنية، التي تجرم أفعالاً غير تقليدية،
ولاشك أنها تشريعات تتطلب جهدًا خاصًا لاستيعابها.
مثال: قانون الطيران المدني الجديد الصادر في عام 2019م، الذي جرَّم استخدام طائرات
الدرون (بدون طيار)، والتي انتشر استخدامها بين العامة.
فلاشك أن الأخذ بالمبدأ على إطلاقه، يحمل في طياته قدرًا من الشِّدة، غيرِ
المحمودة.
من غير العدل إخضاع الشخص للمحاسبة الجزائية، دون أن يكون مضمون الأوامر والنواهي
القانونية واضحًا ومفهومًا لديهم؛ وهو ما يترتب عليه وقوع الأفراد في غلط في تفسير
القانون.
ختامًا، نقول: مهما وُجِّه من سهام النقد إلى قاعدة عدم جواز الاعتداد بالجهل
بالقانون، فإن وجودها في تشريعاتنا، يُعد من ألزم اللزوميّات؛ حفظًا للأمن والنظام
العام، وللمبرِّرات التي سُقناها فيما تقدَّم.
هذا، وبالنظر إلى أن الانتقادات المذكورة، لها وجاهتها؛ سنعمل، في العدد القادم،
على تسليط الضوء على دور التشريع والقضاء في التخفيف من حدَّة القاعدة.
*حازت المرتبة الأولى في شهادة القانون من جامعة صحار، سنة 2018م
* المراجع:
ـ ـ الدكتور محمود نجيب حسني (1982)، شرح قانون العقوبات، القسم العام، دار النهضة
العربية.
ـ اـ الدكتور محمد حسين منصور (1995)، مدخل إلى القانون (القاعدة القانونية)، دار
النهضة العربية.
ـ اـ الدكتور أحمد براك، الجهل والغلط في القانون بين القاعدة القانونية وإعتبارات
العدالة (مقال).
مرسوم
سلطاني رقم 7 / 2018 بإصدار قانون الجزاء
المرسوم
وفقاً لآخر تعديل - مرسوم سلطاني رقم 90/99 بإصدار قانون السلطة القضائية