جريدة الوطن الإثنين 18
مايو 2020 م - ٢٤ رمضان ١٤٤١ هـ
بالتعاون
مع الادعاء العام: تطور المنظومة القضائية في عهد السُّلطان الراحل (ثانيًا: القضاء)
يعد القضاء في أيّ
أمَّةٍ، من أعز مقوماتها، ومن أهم دعائمها وأركانها. وبفضل الله تعالى، اتَّسم
القضاء العُماني، عبر تاريخه المجيد، بالعدالةِ والنزاهةِ والسُّمعةِ الطيبة. وقد
قدَّر العليُّ القدير لعُمان بتاريخ 23/7/1970م، أن تَدخُل مرحلةً جديدةً من مراحل
تاريخها الطويل، وذلك بتولي حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس، طيَّب الله ثراه،
زمام قيادة البلاد. لم تكن المهمة مفروشةً بالورود، غير أن عزائم الرجال وهممهم
صنعت المستحيل؛ فتحقَّق الوعد بفضل الله تعالى، وانطلقت عُمان تفتح أبوابها ونوافذها
لنورٍ جديد، أمام مختلف مُؤسسات الدولة، ومن أهمها القضاء. لذلك، كان أوّل تشكيلٍ
وزاريّ في السَّلطنة يحوي وزارة العدل من بين الوزارات الأربع التي تشكلت؛ ولم يكن
حينها قانونٌ منظمٌ ومُبيّن للصلاحيّاتِ والإطار القضائي القانوني. لذلك، كانت
المسؤولية كبيرة والتحديات جسيمة، فعملت وزارة العدل على بناء التنظيم القضائيّ،
مُعتمدةً على المبادئ والأصول العامة في الشريعة الإسلامية.
لقد كان القاضي في عُمان عبر تاريخها، يُعدّ مرجعًا دينيًا وقياديًا وسياسيًا
واجتماعيًا، وكان تعيينه في منصب القضاء بناءً على المؤهلات العلمية والدينية التي
يتحلى بها، وكان يتم من قبل الحاكم مُباشرةً، بناءً على ترشيحات أهل الحل والعقد؛ ولذلك،
كان التطبيق الحازم لمبدأ المساواة أمام القانون أمرًا لا يقبل المساومة، فتم تطوير
المحكمة الشرعية في مسقط، حيث نُقِل مقرّها إلى مجمع الوزارات بروي كخطوةٍ أولى نحو
التطوير، ثم زادت الوزارة من عدد القضاة والموظفين والمعاونين والإداريين، وطوَّرت
المحاكم القائمة في الولايات الأخرى، وأنشأت محاكم في الولايات التي لم تكن بها
محاكم، سواءً كان ذلك بالبناء أو الإيجار أو بالاشتراك مع مبنى مكتب الوالي.
كان العمل بين القاضي والوالي متلازمًا، حيث تُقدَّم الدعوى ابتداءً لدى مكتب
الوالي، ويعمل الوالي جهده في الإصلاح بين الطرفين فإن تيسَّر له، فذلك؛ وإلا، أحال
الدّعوى إلى القاضي للنظر فيها؛ وقد تُقدَّم الدّعوى مُباشرةً إلى القاضي. ولعدم
وجود ما ينظم العمل القضائي، عملت الوزارة على إصدار الأنظمة واللوائح والقرارات
الخاصة بذلك.
دمجٌ بين العدل والداخلية:
وفي تطورٍ لافت، تم في خواتيم عام 1973م، دمج وزارتي العدل والداخلية في وزارةٍ
واحدة، لما تراءى من ارتباطٍ وثيقٍ بين عمل القضاة، وعمل الولاة؛ إلا أنه ولبروز
بعض التداخل في الاختصاصات العملية، أدى بعد حوالي سنتين، إلى الفصل بينهما.
ولايةٌ عامة للقضاء:
وفي السّياق المتقدم، صدر بتاريخ 11/3/1978م، القرار الوزاري رقم (3/1978)،
باختصاص المحاكم الشرعية بنظر جميع القضايا المدنية والجزائية والأحوال الشخصية،
باستثناء التي فوّض فيها حق القضاء إلى لجانٍ أو محاكم أخرى. وكما نصّ، القرار ذاته،
على أن كافة القرارات والأحكام الصّادرة عن المحاكم الشرعية، في مختلف القضايا،
بالدرجة الابتدائية، قابلة للاستئناف، خلال مدة شهر من تاريخ صدورها، إن كانت
وجاهية؛ أو من تاريخ تبليغها، إن كانت غيابية؛ باستثناء الحقوق المدّعى بها، إن
كانت قيمتها أقل من (100) مئة ريال أو العقوبات إذا كانت مدة الحبس فيها أقل من
أسبوعين؛ فتكون أحكامها قطعية.
تنازع الاختصاص:
وإذا حدث خلاف على الاختصاص بين محكمتين شرعيّتين أو أكثر، سواءً كان الخلاف
سلبيًا، بأن تقرر أكثر من محكمة عدم اختصاصها بالنظر في دعوى معينة؛ أم كان
إيجابيًا، كأن تُقرِّر أكثر من محكمة اختصاصها للنظر؛ فيحق لأيٍّ من المتداعيين أو
المحاكم المعنية رفع الأمر إلى محكمة الاستئناف لتعيين المرجع المختص.
مراجعة الأحكام:
ونص القرار كذلك على تشكيل محكمة استئناف واحدة في مسقط، ولجنة عُليا للتظلمات
برئاسة وزير العدل أو من ينيبه، وبعضوية مستشار الدولة للشؤون العدلية، والمفتي
العام للسَّلطنة، واثنين من القضاة، يتم انتدابهما لعضوية اللجنة، بموجب قرار من
وزير العدل، على ألّا يكون أيٍّ من أعضاء اللجنة قد شارك في إصدار القرار أو الحكم
المشكو منه، وعند وقوع الخلاف في الرأي تصدر اللجنة قرارها بالأكثرية.
وتنظر لجنة التظلمات العليا، بصفتها الجزائية، في جميع الأحكام والقرارات الصادرة
عن محكمة الاستئناف في القضايا الجزائية التي تكون العقوبة المقضي بها هي الإعدام
أو السّجن المؤبد أو السّجن المؤقت (3 – 15) سنة؛ وبصفتها الحقوقية، في الأحكام
والقرارات الصادرة عن محاكم الاستئناف في الدعاوى الحقوقية التي تزيد قيمة المدعى
به عن (500) خمسمائة ريال عُماني.
وأشير هنا إلى أن القضاء الشرعي لم يكن ينظر في القضايا الجزائية، التي كانت من
اختصاص المحكمة الجزائية؛ وقد تميّزت المحكمة الشرعية في مسقط عن سائِر محاكم
الولايات في السَّلطنة بأمرين هامين هما: استقبال الدعاوى من الخصوم مُباشرة دون
الحاجة للتوجّه الى مكتب الوالي؛ وأنها تقوم بتنفيذ الأحكام الصادرة بنفسها، دون
الحاجة إلى تحويل الأحكام الصادرة إلى مكاتب الولاة للتنفيذ.
وفيما يتعلق بمحكمة الاستئناف، فمنذ عام 1970م، إلى عام 1978م، لم تكن هناك محكمة
استئناف بصورةٍ كلية، إلا أن هذا لا يعني أن الأحكام لم تكن تُستأنف، كما رأينا في
القرارات السَّابقة، حيث تم النص على الاستئناف، وكان يسند إلى لجان تشكل بقرارات
من قضاة أُولي خبرة ومعرفة كبيرتين، غير أنه ومع تنامي العمل القضائي، والتطور
الكبير في شتى مجالات الحياة؛ تم إنشاء محكمة الاستئناف بموجب القرار الوزاري رقم
(3/1978)، الصادر بتاريخ 11/3/1978م، ونص القرار على أن يكون مقر المحكمة في مسقط.
وكانت مدة الاستئناف المقرَّرة هي شهر من تاريخ العلم بالحكم الابتدائي، وتشكل
محكمة الاستئناف من ثلاثة قضاة على الأقل، يصدرون حكمهم بحضور الأطراف، ويكون
الحكم قابلاً للطعن أمام لجنة التظلمات، خلال شهر من تاريخ العلم به.
ولجنة التظلمات لم تكن قائمة في الفترة (1970 – 1978)، حيث كانت تشكل لجنةً خاصة
أحيانًا عند الضرورة، في القضايا المهمة، التي تستوجِب ذلك بعد صدور حكم الاستئناف
فيها؛ غير أنه، ومع ازدياد عدد القضايا المتظلم منها، وتطور آليات العمل التجاري
وغيره، تم إنشاء لجنة التظلمات، بتاريخ 11/3/1978م، مع ذات القرار الذي أقر إنشاء
محكمة الاستئناف، وتشكلت لجنة برئاسة وزير العدل أو من ينيبه، وبعضوية مستشار
الدولة للشؤون العدلية واثنين من القضاة، يعيّنون لعضوية اللجنة بموجب قرار من وزير
العدل، وتنظر اللجنة بصفتها الجزائية في جميع الأحكام والقرارات الصادرة عن محكمة
الاستئناف في قضايا الجنايات، التي تكون العقوبة المقررة فيها هي الإعدام أو السجن
المؤبد أو السجن المؤقت، وبصفتها الحقوقية في الأحكام والقرارات الصادرة عن محكمة
الاستئناف في الدعاوى الحقوقية التي تزيد قيمة المطالبة فيها عن (500) ريال
عُماني؛ واستمر العمل في هذه اللجنة حتى تاريخ تطبيق قانون السُّلطة القضائية
بتاريخ 1/6/2001م، وكانت تبعيتها للديوان السُّلطاني، ومن ثم لديوان البلاط
السُّلطاني. وتعتبر لجنة التظلمات في حكم المحكمة العليا، أو محكمة التمييز؛ على
حُسبانها أعلى مرجع قضائي في السّلطنة؛ وبلغ عدد المحاكم الشرعية (45) محكمة. أما
القضايا الجزائية، فكان مرجعها المحكمة الجزائية.
هيئات قضائية متخصّصة:
مع تطور الحياة وتعقّدها، كان لابد من فصل بعض المنازعات، ذات الطبيعة الفنية
المتخصصة، من القضاء الشرعي؛ فأسندت القضايا التجارية إلى لجنة حسم المنازعات
التجارية، التي بدأ عملها بتاريخ ٢١/٥/١٩٧٢م، وكان تشكيلها يضم تسعة أعضاء برئاسة
وكيل وزارة التجارة والصناعة، وخمسة أعضاء من التجار وأصحاب المعرفة بالأعمال
التجارية، ومدير عام التجارة بوزارة التجارة، ومدير دائرة الشركات التجارية، ورئيس
غرفة تجارة وصناعة عُمان؛ كما أنه تم إنشاء أنواع القضاء الأخرى التي استوجبت
وجودها تطورات النهضة العُمانية في شتى الميادين؛ فوُجِد قاضٍ يختص بشؤون الأراضي،
مقر عمله وزارة الأراضي (الإسكان لاحقًا)؛ كما وجدت لجنة لحسم المنازعات الإيجارية،
في بلدية مسقط، بتاريخ 21/5/1972م؛ تغيّر اسمها فيما بعد إلى هيئة حسم المنازعات
التجارية، وذلك بموجب المرسوم السلطاني رقم (79/81)؛ ليتغيّر اسمها لاحقًا إلى
المحكمة التجارية، بموجب المرسوم السلطاني رقم (13/97(؛ كما تشكّلت بعض اللجان
الخاصة بقرارات خاصة للنظر في القضايا المتعلقة بأمن الدولة؛ كما أُنشِئت محكمة
الشرطة الجزائية بموجب المرسوم السُّلطاني رقم (5/73)، وكانت تبعيتها لجهاز شرطة
عُمان السُّلطانية إداريًا وماليًا، وكان يشرف عليها المفتش العام للشرطة
والجمارك ونائبه، وهي ذاتها المحكمة الجزائية فيما بعد، والتي أُنشِئت بموجب
المرسوم السُّلطاني رقم (25/84)، وكانت المحكمة الجزائية تتمتّع باستقلال إداري
ومالي، يشرف عليها مستشار الدولة للشؤون الجزائية.
وفي خطوة كبيرة ومهمة في تطوير القضاء الجزائي، صدر المرسوم السُّلطاني رقم
(25/84)، بتنظيم القضاء الجزائي، والذي بموجبه تم تغيير مُسمى المحكمة إلى
المحكمة الجزائية، وجعلت مرجعيتها الإدارية والمالية لوزارة شؤون الديوان
السُّلطاني، كما أوجد هذا المرسوم درجة التقاضي الجزائي الثانية وهي درجة
الاستئناف؛ كما نصَّت المادة الثالثة من المرسوم على تشكيل لجنة من مُستشار الدولة
للشؤون الجزائية ومستشار الدولة للشؤون العدلية، لإبداء الرأي في أحكام الإعدام من
الناحية الشرعية، قبل إصدارها من المحكمة، والتصديق عليها من لدُن جلالة السُّلطان.
وحدَّد المرسوم الولايات التي يتوجب إنشاء محاكم جزائية فيها، وهي: العاصمة مسقط،
وصلالة ونزوى وصحار وصور.
هكذا نلاحظ أن القضاء العُماني بكافة أنواعه مرَّ بمراحل توالى فيها التطوير
والتنظيم شيئًا فشيئًا؛ ومع ذلك، فإنه بصدور قانون السُّلطة القضائية، بتاريخ
12/11/1996م، يكون القضاء العُماني قد مرَّ بمرحلةٍ مفصلية انتقاليةٍ كُبرى،
وبعلامةٍ فارقة في جبينه؛ ولو لم يكن لتطبيق هذا القانون من حسناتٍ سوى إرساء
مرجعية قضائية واحدة في كافة المحاكم وشتّى أنواع القضاء، لكفاهُ مَحمَدةً؛ فكيف
به وقد نظَّم العمل القضائيّ، وقرَّب جهات القضاء من المتقاضين، وأرسى دعائمه،
وقوّى سلطته، وأكّد استقلاله، فأصبح قضاءً مُنظّمًا وفق أحدث قوانين القضاء الدولية
المتعارف عليها، وقد هيّأ لصدور قانون السُّلطة القضائية صدور المرسوم السلطاني
رقم (101/96) الذي اشتمل على النظام الأساسي للدولة، ثم بعد ذلك صدور المرسوم
السُّلطاني رقم (90/99) بقانون السُّلطة القضائيّة المعدّل بموجب المرسوم
السُّلطاني رقم (14/2001)، وكذلك صدور المرسوم السُّلطاني رقم (93/99) بإنشاء
المجلس الأعلى للقضاء.
وعليه، يمكننا القول بأن القضاء العُماني كان كالبناء الشامخ الذي يُبنى رويدًا
رويدًا، وأن تطبيق قانون السُّلطة القضائية، أكمل مشروع هذا البناء، وأبدع في
إخراجِه على أكمل وجه. هذا، وقد أفرد النظام الأساسي للدولة بابه السادس للقضاء،
وقد احتوى على (13) مادة، وجاءت تحديدًا في المواد (59 – 71)، واحتوت على نصوصٍ
دستورية هامة جدًا، لعل أهمها المادة (59) التي نصَّت على أن سيادة القانون أساس
الحكم في الدولة، وشرف القضاء، ونزاهة القضاة، وعدلهم، ضمان للحقوق والحريات،
والمادة (60) التي نصَّت على أن السُّلطة القضائية مستقلة والمادة (61) التي نصت
على أنه لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير القانون وهم غير قابلين للعزل، إلا في
الحالات التي يحدّدها القانون، ولا يجوز لأيّ جهة التدخل في القضايا أو شؤون
العدالة، ويعتبر مثل هذا التدخل جريمة يعاقب عليها القانون، وقررت المادة (66)
وجود مجلس أعلى للقضاء، حيث نصت على أنه يكون للقضاء مجلس أعلى يشرف على حسن سير
العمل في المحاكم وفي الأجهزة المعاونة، ويبيّن القانون صلاحياته في الشؤون
الوظيفية للقضاء والادّعاء العام، وقرّرت المادة (67) إيجاد دائرة أو محكمة خاصة
للفصل في الخصومات الإدارية، وبالفعل تمّ إنشاء محكمة القضاء الإداري.
وضمن هذه المرحلة الانتقالية في بناء النظام القضائي، صدر قانون محكمة القضاء
الإداري بموجب المرسوم السلطاني رقم (91/99)؛ وصدر قانون الادعاء العام، بموجب
المرسوم السلطاني رقم (92/99)، وبموجبه تم تطوير الادّعاء العام وفق مُقتضيات
قانونه؛ ثم صدر المرسوم السُّلطاني (93/99)، بإنشاء المجلس الأعلى للقضاء؛ ليأتي
بعد المرسوم السلطاني رقم (47/2000)، بتحديدِ اختصاصات وزارة العدل؛ ثم المرسوم رقم
(98/2005)، بإصدار قانون التوفيق والمصالحة، فأصبح القضاء بجميع أنواعه مرجعيته
الإدارية العامة وزارة العدل، ومرجعيته القضائية المحكمة العليا؛ ومرجعيته بالنسبة
لرجال سلطته لمجلس الشؤون الإدارية، وذلك بإشراف مرجعية رئيسة تشريعية، هي المجلس
الأعلى للقضاء، برئاسة جلالة السّلطان، يحفظه الله؛ وأشير هنا إلى أن قانون
السُّلطة القضائية المشار إليه تم تعديله بموجب المرسوم السلطاني رقم (14/2001)،
فأنشِئت (6) محاكم استئناف، بدلا من واحدة؛ وأنشئت (40) محكمة ابتدائية، بدلاً من
ست محاكم، فيما ألغيت المحاكم الجُزئية التي نصَّ عليها القانون قبل التعديل؛
واستمر التطوير والتحديث للمنظومة القضائية حتى يومنا هذا، وها هي عُمان تستقبل
مرحلة جديدة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق أعزّه الله وأيّده،
لاستكمال مسيرة البناء المبارك لعُمان في شتّى الميادين، ولمزيدٍ من الارتقاء
بالسُّلطة القضائية، في جميع جوانبها و مكوناتها.
· المادة المنشورة سبق نشرها في مجلة “المجتمع والقانون”، الصادرة عن الادعاء
العام.
· نقحها، وجهزها للنشر الصحفي، رئيس المكتب الفني، بالادعاء العام.