جريدة الوطن الإثنين 14
ديسمبر 2020 م - ٢٨ ربيع الثانيI ١٤٤٢ هـ
«الوطن» بالتعاون مع
الادعاء العام: سلطةُ الاتهام بين الشرعية والملاءمة
كثيرًا ما يتردَّد في
أذهانِ البُسطاءِ من العامة، سيَّما بين غيرِ العالمين ببواطنِ القوانين، ودهاليزها،
هاجسٌ مُؤدّاه: أنه إذا ما قُدِّرَ لأحدٍ الزّلل باقترافِ المحظور، ثمّ الوقوع في
دركِ الضّبط، فالإحالة إلى الادِّعاء العام، فإن الأخير، سينحو، لا محالةً، إلى
التقريرِ بالاتهام وإحالة المتهم إلى المحكمة، لمقاضاتِه، مادام الثابت يقطع
بالدّليلِ الجازم، والبرهان السّاطع، أنه مُذنبٌ فيما هو منسوبٌ إليه من اتهام.
يعتقدون خطأً، بأن الادِّعاء العام يقتصر دوره على مُجرّد تفويض الأمر للمحكمةِ،
لتقرير ما تراه هي مناسبًا بشأن المتهم؛ دون أن يكون له سلطة وزن القضية، محل البحث،
في ميزانِ المصالحِ المجتمعيّةِ المعتبرة؛ ليُقرر المناسب بشأنها، من حيث الإحالة
إلى المحكمة المختصة، أو حفظ التحقيقات.
لا نستطيع القول: إن هذا الاعتقاد خطأ بالكُليّة؛ وإنما، نقول ونؤكّد هاهنا أن
الأمر مرجعه إلى المدرسةِ الفكريّة التي تتبناها كلِّ دولةٍ على حِدة، وفق ما سنراه
تاليًا.
ثانيًا ـ مدرستان فكريتان:
نشيرُ في هذه الاستهلالية إلى أن مَبدأينِ شهيرينِ يحكُمانِ سلطة الاتهام، فيما
يتعلَّق بكيفية التصرُّف في الدّعوى العُمومية، من حيث حتميةِ بسطها على المحكمة
المختصة للفصلِ فيها؛ أم لها هي ابتداءً تحديد مصير الدَّعوى، وفق مرتكزات مُجتمعيةٍ
مُحدَّدة، اصطلح على تسميتِها (المصلحة العامة)؛ لتقرِّر على ضوئها الإحالة إلى
المحكمة، أو إنهاء الدعوى بلا محاكمة. هذان المبدآن هما: مبدأ الشَّرعية، ومبدأ
الملاءمة في الإجراءات الجزائية.
ويُعرف مبدأ الشرعية في الإجراءات الجزائية بأنه التزام سلطة الاتهام بتحريكِ
الدَّعوى العُموميةِ إلى المحكمة، مادامت توفَّرت شبهة اتهام في مواجهة مُتهمٍ
بعينِه، أيّ: أن سلطة الاتهام، وفق هذا المبدأ، مُلزمةً بتحريكِ الدّعوى العمومية،
إلى المحكمة المختصة، في جميع الجرائم، أيًا كانت درجة جسامتها، أو ظروفها؛ ودون أن
تكون لها أيّ سلطةٍ تقديرية، لاستبعادِ قضيةٍ، دون أخرى من الإحالةِ إلى القضاء.
أما مبدأ الملاءمة في الإجراءات الجزائية، فقد وُضِعَ للتخفيفِ من صرامةِ مبدأ
الشرعية. فبموجب هذا المبدأ، يكون لسلطةِ الاتهام صلاحية التقدير بين إحالة الدّعوى
إلى المحكمة، أو إنهائها بلا مُحاكمة؛ رغمًا من معرفة الفاعل، وكفاية أدلّة الإدانة
ضدّه؛ وذلك، لأسبابٍ تمليها المصلحة العامة، وهو ما يعبِّر عنه الفقه القانوني
الانجليزي بعبارة:(Not in the public interest)، أيّ: ليس الأمر في المصلحة العامة.
قانون الإجراءات الجزائية في السَّلطنة أخذ بمبدأ الملاءمة في الإجراءات الجزائية،
حيث أقرَّ للادِّعاء العام، التقرير بإنهاء الدّعوى العمومية، دونما محاكمة، رغم
ثبوت الاتهام بحق المتهم، وكفاية الأدلة لتحقيق الإدانة؛ متى ما اقتضت المصلحة
العامة ذلك؛ وكان المُدَّعي بالحق المدني قد تنازل عن حقه المدني.
ويفترضُ المشرع في هذا النوع من الحفظ أن لدى الادِّعاء العام أدلة كافية لإدانة
المتهم؛ إلا أنه، ولاعتبارات المصلحة العامة، التي عبر عنها المشرع بعبارة “إذا وجد
في عدم أهمية الجريمة، أو في ظروفها ما يُبرّر ذلك”؛ شريطة عدم وجود مطالبات مدنية.
ونظرًا لخطورة هذا الإجراء، فقد أسنده المشرع للمُدَّعي العام فقط، دون سواه من
الأعضاء (المادة 125 إجراءات جزائية).
جديرٌ بالذكر، فإن المتبع عمليًا، يكمُن في أن يرفع عُضو الادِّعاء العام المختص (ونقصد
بالمختص هنا، هو العضو الذي يتعامل مع القضية)، يرفع إلى المدَّعي العام مشروعًا
لقرار حفظ التحقيقات لعدم الأهمية، أو مُراعاة لظروف اقتراف الجريمة؛ وإذا وافق
المدَّعي العام على الأسباب التي ساقها العضو المختص؛ يؤشر بسحب القرار على أوراق
مكتبه، تمهيدًا للتوقيع عليه.
ثالثًا ـ مثالٌ افتراضيّ:
شابٌ يبلغ من العمر (19) تسعةَ عشر ربيعًا، أمضى سنة كاملة، بعد إكمال دراسة
الثانوية العامة، يبحث عن وظيفة، دونما جدوى. وُفِّقَ أخيرًا بالحصول على مُبتغاه،
بعد أن ارتكب جريمة سرقة، نتيجة اليأس المقرون بتراكم الديون، وحاجته الماسة لإعالة
والدته وإخوته، بعد أن تُوفي والده، وآلت إليه مسؤولية الأسرة. ونتيجة المساعي التي
بذلها أهل الخير، تنازل المُدَّعي بالحق المدني عن مطالبة المتهم بأيّ حقٍ أو دعوى.
وحيث إن جريمة السَّرقة تعدُّ من جرائم الحق العام، التي لا تسقط بتنازل الشاكي عن
شكواه، وفق مُقتضيات قانون الجزاء؛ فما على الادِّعاء العام، والحال كذلك، سوى
التقرير بالإحالة إلى المحكمة، ما دامت الأدلة كافية لتحقيقِ الإدانة؛ كما هو الحال
في خصوصية المثال المطروح.
هنا تدخل المشرع، من خلال المادة (125) من قانون الإجراءات الجزائية، وأسند إلى
المدَّعي العام تقدير مَكمن المصلحة؛ ليُقرّر، على ضوء ذلك ما إذا كانت المصلحة
تكمن في عدم التسامح مع المتهم، رغم نقاء صحيفته الجنائية ممَّا يُشينها؛ أم أن
المصلحة جُلّها تكمن في ترجيح المصلحة الخاصة (مصلحة المتهم) على المصلحة العامة (المجتمع)
في مُلاحقة الجريمة ومرتكبها. فإذا ما أسقطنا هذه الاعتبارات على خصوصية الحالة
المعروضة، نُرجّح أن المدَّعي العام سينتهي، في الغالب الأعم، إلى حفظ التحقيقات (مُراعاةً
لظروفِ القضية)، حيث لا وجود لما يشيرُ إلى خطورة إجرامية لدى المتهم، وأن الجريمة
لم تخرج من فلك الزلَّة والهفوة التي لا يخلو منهما أيّ إنسانٍ؛ وأن الإصرار على
الملاحقة القضائية، والحال كذلك، سيجعل من المتهم مُجرمًا مُحتملًا، نتيجةً لفقدِه
فرصة العمل التي حصل عليها مؤخَّرًا؛ وسيُصبح بالتالي عالةً على المجتمع، بعد خروجه
من السّجن؛ إذ لن يجد عندئذٍ من يعيِّنه.
وعليه، فإن وقف السير في الدعوى العمومية، في هكذا حالات، والاكتفاء بما اتخذ ضدّ
المتهم من إجراءات القبض والتحقيق والحبس الاحتياطي، وما صاحب ذلك من تشهيرٍ، غير
مقصود، تكون كافيةً لردع فئة مُعيّنة من المتهمين، تحول دون عودتهم إلى نظير فعلتهم
مستقبلًا؛ فلا مُسوِّغ، والحال كذلك، من الإصرار على المضي قُدمًا نحو الملاحقة
القضائية، لأنها ستضرُّ بالمجتمع أكثر ممّا ستنفعه.
رابعًا ـ مُسوغات مبدأ الملاءمة:
علاوةً على المسوّغات التي أشرنا إليها في المثال الافتراضي المتقدّم، لترجيح هذا
المبدأ على مبدأ الشرعية في الإجراءات الجزائية، نذكر تاليًا بعض المسوغات التي
أوردها بعض فقهاء القانون، وهي على النحو التالي:
1 ـ وسيلةٌ هي لتطبيقِ السياسة الجنائيةِ المعاصرة: يرى الفقه الجنائي الحديث أن
واجب الدولة في العقاب، لا يعني توقيع عقوباتٍ قاسيةٍ على كلِّ من زلّت قدمه إلى
اقتراف الجريمة؛ وإنما، يعني في المقام الأول توقيع العقوبة الكافية لتحقيق الرّدع
المطلوب عدالةً، حسب الخطورة الجرميةِ الكامنة في نفسِ كلِّ جانٍ، دون زيادة؛ وفقًا
لما يُعرف بمبدأ التفريدِ العِقابيّ. فالزيادة لا تثبت النفع، وإنما تضر بالمصالح
التي يسعى لتحقيقها العقاب. فهناك من يرتدع بمُجرّد مُباشرة إجراءات الضّبط، من
قبضٍ وتحقيقٍ وحبسٍ احتياطيٍّ؛ فمن الحِكمة الإصلاحية، والحال كذلك، أن يكتفي
القاضي إزاء الجاني بهذه الإجراءات، ويوقف تنفيذ عقوبة السّجن بحقه، إعمالاً
للمبدأ. وللمرتكز نفسه، وتحقيقًا للمصلحة المعتبرة ذاتها، ينبغي أن تنسحب هذه
الصلاحية على الادِّعاء العام أيضًا؛ ليكون في مقدورِه إنهاء الدَّعوى بلا مُحاكمة،
رغم كفاية أدلّة الاتهام. فالتقرير بالاتهام، في هذه الحالة، وكل ما تستتبعه
المحاكمة من إيداع المذنب في قفصِ الاتهام، ومن تشهيرٍ وإيلامٍ، تؤدّي إلى إلحاق
الضرر به؛ وبالتالي إلى عدم تحقق أحد أهم مقاصد العقوبة، الذي هو إصلاح المذنب،
للحيلولة دون العودة إلى سابقِ عهدِه. فالأخذ مبدأ الملاءمة، والحال كذلك، يُعدّ من
ألزمِ اللّزوميّات في التعامل مع المذنب بما يتناسب وخطورته الإجرامية؛ وهو يعادل
مبدأ التفريد العقابي أمام القاضي.
2 ـ كما أن مبدأ الملاءمة يعدّ ضمانةً من ضمانات استقلال سلطة الاتهام. إذ لا تكون
ملزمة بمباشرة الاتهام، أو عدم مباشرته؛ والأمر جُله يرجع لسلطتها التقديرية،
باعتبارها نائبة عن المجتمع في اقتضاء الحقوق، وأمينة على مصالحه.
كما يٌعدّ المبدأ ضمانة لاستقلال سلطة الاتهام عن القضاء أيضًا. إذ قد تستخدم
المحكمة صلاحية التصدي لتهمٍ أخرى لم يقدّم الادِّعاء العام المتهمين بها، وفق
مُقتضيات المادة (11) من قانون الإجراءات الجزائية؛ فتعيد الأوراق إلى الادعاء
العام للتحقيق فيها؛ فيقرر الادِّعاء العام، بعد الانتهاء من التحقيق حفظ التهم،
محل التصدّي، لأسباب التي يقدرها. ولا يقدح من هذا القول إن للمجني عليه التظلم من
قرار الحفظ أمام المحكمة، وفق المادة (126) من قانون الإجراءات الجزائية.
3 ـ إن المواءمة بين التقرير بالاتهام، أو الإحجام عنه، تستجيب لضروراتٍ مُجتمعيةٍ
وعمليةٍ، في آنٍ معًا. فقد يكون المتهم تصالح مع المجني عليه؛ وبالتبعية، مع
المجتمع الذي اقترف الجريمة بحقه، كما هو الحال في القضية الافتراضية المتقدّمة؛
وعليه، فإن الاصرار على الاتهام، في هذه الحالة، لا يستجيب البتّة لمصالح المجتمع.
ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الحفظ إعمالًا للمبدأ، يُخفّف على قضاءِ الحكم عِبء النظر في
قضايا قد تبدو عديمة الأهمية، كحال المثال المتقدم؛ أو قضايا قد لا تستدعي ظروفها
إضاعة وقت القضاء لها؛ كما سنرى في القضية الواقعية التالية.
خامسًا ـ قضية واقعية:
القضيةُ الماثلة، تعاملتُ معها شخصيًا في عام 2006م، وتتحصَّل واقعاتها في
المعلومات الكتابية التي وردتنا من إحدى الجهات الأمنية، حول تداولِ مقطعٍ لمشهدٍ
خلاعيٍّ، بين موظّفي إحدى وحدات الجهاز الإداري للدولة، ظهرت فيه المُتهمة الثانية
مع شخصٍ مجهولٍ، تُمارس معه الجنس، مُمارسةً تامة. ولقد ورد مع تلك المعلومة قُرصٌ
مُدمجٌ، يحتوي المشهد المذكور.
التحقيقات التي باشرناها، كشفت النِّقاب عن تورُّط المتهم الأول في الجرم، وعن
قيامه هو شخصيًا بتصوير المشهد الخلاعيّ، بينما كان يرتكب الفاحشة مع المتّهمة.
ممّا لا شك فيه، فإن الواقعة محل البحث، وعلى النحو السَّالف الإيراد، تُرشِّح في
ظاهرها لقيام جُنح الزِّنا، والفضيحةِ العلنية، ومخالفة قانون الاتصالات، المُجرمة
والمعاقب عليها بمقتضى المادتين:(224، 225) من قانون الجزاء رقم (7 /1974)؛ والمادة
(61) من قانون تنظيم الاتّصالات.
وحيث أن الثّابت، من واقع التّحقيقات المُتّخذة، أشار إلى أن نيّة المتهم لم تنصرف
إلى ترويج المشهد، لتحقيق الفضيحة العلنية، وإنما حدث ذلك بغير إرادة منه. فلقد
أرسل المتّهم هاتفه النّقال إلى أحدٍ من معارف (س. ص)، كونه ذا خبرة في تقنية
الهواتف الذكية، حيث طلب منه تحديث البرامج لديه. يؤكّد المتهم أنه أحاط الفنيّ
بوجود مشهدٍ خلاعيٍّ في الهاتف، وأنه طلب منه المحافظة على سرّيته؛ إلاّ أن الأخير
عمل على نشره وترويجه.
وحيث أن إجراءات التحقيق التي باشرناها تُجاه الفني، أكّدت صحة انتقال المشهد
الخلاعيّ إليه؛ إلاّ أنه دَولبَ هذه الحقيقة بالكيفية التي تخدمه، حيث زَعمَ بأن
المُتهم طلب منه ترويج المشهد؛ لكونه على خلافٍ مع المتهمة، وأنه يرغب في فضح
أمرها!! لم نطمئن إلى صحّة ما قاله الفني؛ ورأينا أنه ضربٌ من ضروب الدّفاع، لإبعاد
التّهمة عن نفسه، وإن كان على حساب المتهم. فمع التسليمِ الجدليّ بأن نيّة المتّهم
انصرفت فعلًا إلى الترويج، لكان قد فعل ذلك بنفسه، دون أن يكشف نفسه أمام الفني.
أيًّا كان الحال، فإن ثبوت انتقال المشهد إلى الفني، كافٍ بحدِّ ذاته للقول بأن
المُتهم هو من تسبَّبَ في حدوث فعل الترويج؛ وبالتالي، في تحقُّق جُنحتي الفضيحة
العلنية ومُخالفة قانون الاتصالات.
وحيث أن التحرّيات التي أُجريت، أكّدت أن المُتَّهمة، عُرفت واشتهرت من قبل الجميع
بالأخلاقِ الحميدة، والانضباط في العمل. فلقد أكّد مُديرها: أنه من شِدَّة تقديره
واحترامه لها، أبى أن يطَّلعَ على المشهد الذي انتشر، حتى لا تتغيَّر نظرته
تُجاهها. مُشيرًا إلى أن مسلكها، بشكلٍ عام، لم يتّسم بالإثارة ولا بلفت أنظار
الشباب إليها؛ فهي مُستقيمة وفي حالها. أضاف الشاهد قائلًا: أن شهرة المتهمة
بالأخلاق الحميدة لم تقتصر على العاملين معها في الإدارة التي تعمل فيها فحسب؛
وإنما حتى بين الإدارات والأقسام الأخرى.
وحيث أكّد لنا المتّهم في التحقيقات، أن المُتّهمة ما كانت لتوافق بالمرّة على
تصوير المشهد، لولا إلحاحه المتكرّر، وطمأنته لها بعدم عرض المشهد على أحد. إن ما
يُؤكّد عدم رغبة المتهمة في التصوير، هو ظهورها في المشهد الخلاعي نفسه مُغطّاة
الوجه؛ ويظهر المتهم وهو يُزيل عنها الغطاء، ويُسمَع صوته وهو يُطمئنها، بما في
معناه: أن الأمر سيبقى بينهما فقط، ولن يطّلع عليه أحد.
وحيث أن إقرار المتهم، بدايةً بأنه هو المُذنب الذي كان في حكم المجهول لدينا؛ ثمّ
إقراره ثانيةً بأنه هو من أغوى المتهمة، ودفعها إلى تصوير المشهد؛ يُؤكِّدُ ـ بما
لا يختلف عليه اثنان ـ انتفاء الخطورة الإجرامية لدى المتهم، وهو الأمر الذي
تُؤكّده كذلك صحيفته الجرمية، الخالية تمامًا ممّا يُشينها.
وحيث وقرَ في يقيننا ذلك؛ فإننا نرى بأن مُجمل ظروف طرفي القضية (المتهم والمتهمة)
تدفعنا إلى التقرير بوقف السّير في الدّعوى العموميّة، للحيلولةِ دون إحالتها إلى
المحكمة؛ وبالتّبعية، دون جلب المزيد من الفضائح، ليس للمتّهمين فحسب، وإنّما
لأسرتيهما أيضًا. فنظرة المجتمع إليهما، سيّما إلى المتهمة، كافيةً بحدّ ذاتها
لردعهما؛ ناهيك عن مُجمل إجراءات التحقيق، وفترة الحبس الاحتياطي بالنسبة للمتهم،
التي امتدّت لعشرة أيام؛ فهي كذلك، كافيةً لتحقيقِ الرّدع المطلوب. إنّنا، وإذ
انتهينا إلى هذا الرّأي، فإنّما ارتكزنا على ما استقرّ في عقيدتِنا من أن السُّلوك
المُنافي للفِطرةِ السّويّةِ حسب العرض المُتقدّم، ليس هو دَيدَن المُتّهمين؛ وأن
الفعل برمّته، حسب تقديرنا يدخل ضمن فلكِ الزَّلة والهفوة اللتين تُحتِّمان على كلّ
أريبٍ وحصيف، يعمل ضمن منظومة العدالة الجنائية، التسامح معهما.
وحيث كان الحال كذلك، فلقد رجَّحنا المصلحة الخاصة، المتمثّلة في تقرير التسامُح مع
المُتّهمين، على المصلحة العامة التي تنحو، في كثيرٍ من الأحيان، إلى فرض الشّدّة
على الخارجين على القانون، بإحالتهم إلى المحكمة، لا لتحقيق الرّدعِ الخاص فحسب،
وإنّما الرّدع العام أيضا. فلا شك أن المصلحة الخاصة، في خصوصيّة الدّعوى المنظورة،
أولى بالرّعاية؛ سيّما إذا ما أخذنا في الاعتبار حداثة عمر المتهمة، فهي لم تكن قد
تجاوزت الثمانية عشرَ ربيعًا وقت ارتكاب الجريمة؛ وكذا ظروف المُتّهم، حيث يعمل في
وظيفةٍ متواضعة للغاية، كما أنه العائلُ الوحيد لأسرةٍ كبيرة، ناهيك عن أنه متزوّجٌ
ولدية ابنٌ لا يتجاوز عمره العامين؛ وأن إحالة القضية إلى المحكمة والحال كذلك، قد
تُخسره مصدر رزقه فتتحطَّم بذلك أسرةً بأكملها.
وحيث كان الحال كذلك، فلقد رفعتُ مُقترحًا إلى المُدَّعي العام بحفظ التحقيقات
نهائيًا، مُراعاةً لظروفها؛ وأخذ المدعي العام بالمقترح، الذي وجده يتناسب
والسياسات الجنائية الحديث، ومع مبدأ الملاءمة الذي أقرّه المشرع في المادة (125)
من قانون الإجراءات الجزائية.
سادسًا ـ الكلمة الختامية:
يبقى أخيرًا أن نؤكّد هاهُنا أن استعراضنا لهذه الصّلاحية العظيمة التي يتمتع بها
الادِّعاء العام، لا ينبغي أن يفسّر على أن الإنسان قد يفعل ما يشاء، وسيفلت من
الملاحقة الجزائية، ما دام قادرًا على شراء رضاء المجني عليه، والتظاهر بالصلح أمام
الادِّعاء العام. نؤكِّد في هذا الصَّدد، أننا ومن منطلق تمثيلنا للمجتمع،
وللمصلحةِ العامة، على حَدٍّ سواء، فإن مثل هذه الصفقات لا تنطلي علينا. فليس كلّ
تنازلٍ عن الدّعوى العمومية يدفع بالادِّعاء العام إلى الأخذ بمبدأ الملاءمة،
وبالتالي إنهاء الدعوى خارج نطاق المحكمة؛ فالمسألة تخضع لمطلق تقديراته، التي
ترتكز على جُملة من العوامل، من ضمنها صحيفة المتهم الجنائية، وسيرته وسمعته بين
الناس بالمجمل. فموجبات المصلحة العامة، قد تدفع بالادِّعاء العام إلى الإحالة إلى
المحكمة رغمًا عن وجود الصُّلح، بل ورغمًا عن نقاء الصحيفة الجنائية للمتهم ممّا
يُشينها.
المرسوم وفقاً لآخر تعديل -
مرسوم سلطاني رقم 90/99 بإصدار قانون السلطة القضائية
المرسوم وفقاً لآخر تعديل - مرسوم سلطاني رقم 97 لسنة 1999
بإصدار قانون الإجراءات الجزائية